العزف المنفرد على أوجاعي ..

    لم أعرف حقاً ان كنت أحببت بصدق .. وما إذا كان الحب الصادق يعني أن يتحول قلب حبيبك الذي دخلته بقدميك إلى منفىً يغلغل روحك .. لا أعرف إن كان على أن أُفنَى في جوانبه وأنفى كياني في طياته فلا أكاد أتعرف على نفسي .. لم أكن أعرف أني لأثبت حبي علي أن أتحول إلى شخص أنا لا أحبه .. فلماذا أحبه .. طالما يحبه هو .. وفي النهاية وجدنا اثنتينا لا نحبه .. 

     لم أعرف أنه كان علي أنسى حياتي وأحلامي وطموحاتي من أجل ذلك المظهر الاجتماعي الجميل .. لم أكن أعرف أن على أن ألتزم الصمت في حوار يدار أمامي ولا أدلي برأيي .. لأن رأيي كان مختلفاً ومعارضاً وشجاعاً .. ولأن مظهري يبدو أجمل إن ابتسمت وصمتت.. ولكني بالفعل جميلة .. وكيف ألتزم الصمت وأنا بعمري ما عرفته إلا أوقات الحزن العميقة .. كيف أصمت وقد كنت أغني طوال حياتي .. وأعزف وأرقص مرحاً .. ذلك المرح والعزف اللذان جذباك إلى في أول الأمر .. كيف تعودت الصمت .. حتى صرت أءلف جميع أركانه مضللة نفسي بأنه أمرعادي وأن الجميع هكذا وأن لابد وأن يكون الجميع تعساء ولكنهم أتقنوا التمثيل ..وكيف تحولت أنا من بطلة جميع القصص والحكايات .. إلى متفرج .. إلى مستمع ومشاهد صف أول .. إلى مسرحية ثقيلة الظل .. حزينة وجميع أبطالها مبتدئون .. والأسوأ .. أن لا مغزى منها ..  

   لا أعرف ان كنت أحببتك بالصدق الذي توقعته مني .. ولا أعرف ان كنت أنت أحببتني حقاً أم لم تفعل ولكني أعرف أني تألمت بدرجة صدق لم أكن أتوقعها  .. وأني ربما صرت أخاف من الصدق تماماً كخوفي من الكذب وأن ربما قلبي يعرف طريقاً للحب يوماً أو لا يعرف ..وأن ربما أجد درباً آخر لصدق يتماشى مع روحي فنصبح نحن الاثنين .. الحقيقة الصادقة الوحيدة في هذا العالم البائس ..

    ربما كان هذا الدرب صداقة .. أو طفل صغير .. أو علاقة روحانية .. أو آلة كمان ..صادقة جداً في العزف المنفرد على أوجاعي .. أوجاع لم أكن أعرف لها أوتاراً .. أوتاراً أتمني لو تقطعت ولكن اللحن من دونها لا يكون جميل ولا يكتمل ..

  

فيا بحر ..

    فيا بحر .. كفى .. كُف عن رميي بمياهك المتطايرة .. كف عن المزاح .. فما جئتك مازحة .. كف عن مغازلتي وركل  أقدامي كي أتحدث .. لن أتحدث .. كف عن إغرائي بالنزول إليك لنلعب سويا .. فكلانا يعلم أني وان كنت طوال حياتي أقاومك وأنتصر ..فإنك حتما ستغلبني هذه المرة .. فإني لن أقاوم ودعني أرفع لك رايتي البيضاء كي تصدق ..

     أعلم أنك افتقدتني .. وأنك اشتقت إلي.. وأنا أيضاً افتقدتك وأشتاق إليك عشرات الأضعاف  ..
 فيا بحر .. أنا لست أنا .. ولكنك أنت .. أعمق قليلاً .. وأكثر زُرقة قليلاً .. وصرت أقرب إلى الشاطئ قليلاً.. ولكنك أنت .. لم تتغير .. مازلت كبيراً وبعيداً وجميلاً وصوتك ورائحتك كما هم  ..
   أما أنا فكبرت كثيراً .. وملامحي اختلفت كثيرا .. خصال شعري صارت بيضاء كثيراً ... أنا لازلت أتعجب أنك عرفتني من أول وهلة .. فأنا لم أعد أعرفني كثيرا ً ..
أتذكر يا بحر .. عندما كنت في الخامسة من عمري .. وكنت أقضي كل وقتي معك .. أبني قصوراً وأنفاق من رمل ذهبي وأستنفذ كل طاقتي في حفر خنادق عميقة ظناً مني أني قد أجد مياهك تحت طبقات الرمل .. وربما أجد بيوت الأسماك ومخلوقات أخرى تحته ..
  كانت أعمق مخاوفي آنذاك أن يظهر لي وأنا أحفر سمكة غاضبة .. تقضم أصابعي حتى أتوقف عن ازعاجها هي وصغارها ونقر بيتها المختبئ تحت الرمال .. أو أن أسبح فيك وأتعمق وأنظر فأجدني انجرفت بعيداً ولم أعد أعرف مكان مظلتنا ..  
     كبرت قليلاً وصرت أنزل مياهك وألعب أنا واخوتي وأقاربنا .. تذكر حين كنا ننتظر أكبر موجة ثم نغطس فيها ونطفو بعدها .. تذكر حين كنا نعطيها ظهورنا ونقفز جميعا في محاولة لكسر موجك .. وكنا نغلبك أحياناً كثيرا وكنت أنت تكسر ظهورنا أحياناً أكثر .. كنت لا أخشى الغرق .. وما زلت لا أخشاه .. سأحدثك عن ما أخشاه فيما بعد ولكن ..
       هل تذكر مزاجك السيئ في بعض الأحيان ؟ تذكر أول دوامة اجتذبتني إليها ؟ تذكر قناديلك التي كنت ترمي بها على شاطئنا وأول لدغة تسببت لي بها ؟ ألومك أنت وليس القنديل .. تذكر ألعابي التي ابتلعتها ؟ ونعالي التي دفنتها في الرمال .. أنا أذكر ..
     كبرت كثيراً وسريعاً .. وصارت مخاوفي أكبر وأكثر وأعمق .. فتحولت القناديل أناساً يلدغون بلا رحمة ..  وصارت دوامة الحياة تبتلعنا وتجذبنا للقاع  ونحن لها مستسلمين ..  وصرت أخشى الألم الذي لا يستطيع مداواته بشر ..صرت أخشى من الحب وعلى من أحب .. صرت أخشى الفراق .. وما بعد الفراق .. صرت أخشى فساد القلوب والأفكار .. وزيفها .. صرت أخشى اللا حياة التى أتنفسها ..صرت أخشى أن أقابل الله خالية الصحيفة .. صرت أخشى وأخشى وأخشى ..
   فيا بحرُ ويا بحرُ ويا بحرُ .. أرأيت ما بداخلي ؟ أدركت أن الموضوع لا يحتمل المزاح ؟ .. وأني قد أتيتك لتعيد لي شعوري بأني صغيرة مجدداً وأنك تكبرني بكثير ..
  

عن الحب والكرامة ..

سمعت ناس كتيرة قوي بتتكلم عن أن الحب والكرامة وأنهم حاجتين مبيتعارضوش ..

مبدأيا في حاجة لازم نبقى عارفينها كويس .. في فرق بين الكرامة والكبرياء بتوعك انت  .. اللي هو دايما بيقلب بالكبر والعند بمفهومنا احنا كمجتمع مصري أصيل .. وفرق بين كرامة الحب ..

      الكرامة دايماً وعزة النفس .. عننا احنا ..

   عندما نقع في الحب ..ده اللي وقعوا بجد .. بنتجرد فعلياً من احساسنا بذاتنا وقيمتها .. ويصبح قلبنا ملك للآخر على طبق من فضة .. قلوبنا بتلين وبتتجرد من دفاعها وأسوارها .. وجنودنا اللي احنا حاطينها تدافع عنه بتنزل سلاحها في حضرة قلب آخر ..وفي الجواز بنتجرد حتى من ملابسنا أمام بعضنا البعض .. فازاي بيجيلك قلب تقول بعدها .. كرامتي ؟ عن أي كرامة تتحدث ..
    أنا لا أتصور أبدا ان الواحد عشان يحب يتحول لانسان عديم الكرامة ويعيش في ذل وإهانة ليل نهار .. " معنديش كرامة ؟ " كلمة وقعها تقيل قوي .. وعلاقة مش سوية بالمرة .. لكن واقعياً اللي بيحب بجد وعايز يحافظ على علاقته .. لازم يتعلم الرحمة.. اللي أهم مكوناتها إنكار الذات* واللين والرفق والتعاطف والانسانية ورفع الراية البيضاء لبعضنا البعض..

     لأن واقعياً كلنا بنحب نفسنا وكرامتنا غالية علينا قوي .. بس لو كل طرف دخل في العلاقة بيها وحطها أولوية .. محدش هيصالح .. محدش هيرفع التليفون ويبتدي الصلح محاولاً إنهاء الخلاف أيا كان مين اللي غلطان .. لأن كلنا وقت الخلاف بنكون غلطانين .. جميع الأطراف .. سواء بتصرف أو بكلمة أو رد فعل أو نظرة أو حتى نبرة صوت .. وكلنا لينا حق  ..بس الواقع انه محدش هيتعتع من مكانه عشان يراضي الطرف الآخر ويرفق بيه وينهي أي خلاف .. وهنا بالذات الكِبر بيدخل ويبرطع ويتحول خلاف أهبل عبيط إلى حرب قبلية و" كرامتي عندي بالدنيا " و"كرامتي ناقحة عليا " و " أنا أموت دفاعاً عن كرامتي" والحاجات الدرامية اللي بنقعد نرددها فحين ان الموضوع كله ممكن ينتهي بمكالمة تليفون واحدة , كل واحد مستنيها من التاني عشان يقوله حقك عليا .. أو حركة واحدة يطلع اللي قصادك مستعد ومستنيك عشان يتحرك قصادها عشر خطوات ..

     لو كان الحب عننا وعن نفسنا وكرامتنا وآمالنا وأحلامنا احنا بس .. يبقى أنت فعلاً محبتش بصدق .. لأن الحب والعلاقات دايما عننا احنا الاتنين .. والكرامة في الحب بتتحول لحاجة مشتركة .. يتنافس الطرفين فيها للدفاع عن كرامة الآخر واحترامها وإعلاء قيمتها ومكانتها والحفاظ عليها ..

    أما الكبرياء .. فلا يجتمع هو والرحمة في قلب واحد .. وأنك لو تعلمت الرحمة .. هتعفي حبيبك من أنه يقف في يوم قصادك يدافع عن كرامته .. وأنك يوم أحببت .. تحولت أنت بكرامتك وقلبك وعقلك , مقترن بكيان آخر ..كيان أكبر اسمه الحب .. حب أركانه الرحمة والصدق والعطاء.. كيان يستحق الدفاع عنه حتى آخر رمق.

  فلو لقيت فعلاً الإنسان أو الإنسانة اللي يستحقوا أنك تجرد قلبك عشانهم .. أعطي أولولية للرحمة واللين والتسامح عن الكرامة والكبرياء .. لأن الحياة وحدها صعبة .. ولأنكم لن تسعدوا حقاً إلا إذا استطعتم فعل ذلك  .  

   وإذا وجدت نفسك في معظم الأوقات بتبّدي كرامتك انت عن أي حاجة في العلاقة أو كانت كرامتك تقف عائقاً في معظم قرارتك ..  يبقى عيد حساباتك .. فربما كانت الوحدة أفضل لك .. وإذا لقيت نفسك بتدور على راحتك انت وسعادتك انت بس .. يبقى من فضلك خليك مع نفسك..

 *الذات : نفس الذات بتاعت كرامتي وحاجتي وكل ما يتعلق بي أنا وحدي فقط.

حتماَ سنكون بخير ..

       فهربت .. وجدتني بدلاً من أن أذهب إلى عملي .. أتوجه إلى محطة مصر .. أخذت أول قطار إلى الاسكندرية .. أول بحر وأكبر بحر عرفته .. و حجزت غرفة تطل على البحر ووضعت حقيبتي وفتحت الشرفة عن آخرها وجلست على السرير بجانبه أتنفس .. لم أحرك ساكنا ولم أغير ملابسي حتى .. ظللت أنظر إلى البحر كأنه صديقي الذي افترقت عنه كثيراً ..

        وأنت يا بحر حقاً صديقي , الذي يعرفني منذ طفولتي  .. كاتم أسراري الذي يعلم جيداً كيف ومتى ينصت .. وتدعني أبوح وأبوح بما يحويه قلبي وبما أثقل عاتقي من هموم و أفكار تزاحمت وتكدست بعقلي فلم يعد لها مكان إلا معك أنت ..تدعني أروي لك ما ضاق به صدري من أسرار لم تروى لأحد بعد .. تدعنى أتكلم وأحكي لك حتى ترهاتي سواء أكانت منطقية أم لم تكن .. وبعد إنصات شديد تأتيني أنت بإجاباتك .. في شكل موج كبير يأخذ كل أوجاعي ويرطمها ببعضها فتتلاشى وترجع مياهك هادئة وثابتة ومستقرة .. كأنك تطمئنني أن لا ألم باقٍ وأن جميع إحباطاتنا وعثراتنا ومخاوفنا واختياراتنا الخاطئة في الحياة تماماً كموجك .. تتجمع من أماكن متفرقة وبعيدة وتعلو وتكبر حتى تبلغ ذروة تتلاشى من بعدها إلى العدم .. باعثة في نفسي طمأنينة غريبة بأنّا سنكون بخير ..



ارجعي يا هيك الأيام ..

أترككم مع واحدة من أحب الكلمات إلى قلبي .. بصوت الرائع جورج خباز ..
قصيدة من مسرحية "مطلوب" , المسرحية من تأليف وإخراج جورج خباز نفسه .. 

" ارجعي يا هاك الايام
  ارجعي عخيل الاوهام

رديني انا طفل صغير عيونو بتلمع بالاحلام 
رديني انا طفل صغير بيتشيطن وما بينلام

ردي الدني بعيوني كبيرة صغيرة الدني هون 
رديني عأوضة صغيري حدودا كل الكون 

شلحيني بهاك الحي العب بزواريبو شوي
العب تيخلصو اللعب وتيتعب مني التعب

وطير وسابق الهوى ولما اوعى وعي الشمس
وعشية نسرب سوا واحكي مع القمر همس

ردي رفقاتي اللي راحوا كل واحد بيميل
ردي سهراتي اللي طالو تينعس الليل

رديني طيار كبير طير طيارة بالخيط
رديني عاشق امير باول بوسة ورا الحيط

رديني مش فاهم شي لكن عارف شو بني
رديلي صوتا لستي الكان ينسيني الدني 

شلحيني عهاك السرير تغمض عينيي ونام .. "



رقصتي وسط السحاب ..

بدأت الحفلة الموسيقية وكانت من عاداتي أن أتتبع نظرات الفرقة لبعضها البعض وإيماءاتهم وإشاراتهم وحركات أيدي المايسترو لأعرف من منهم نجم المقطوعة .. فهناك نجم لكل مقطوعة ..وهناك من أتى مشاركاً فقط .. وهناك من يعشق الموسيقى حقاً ويستمتع بها ..وهناك من يعزف جيدا وراء المايسترو ويفهمه ويعرف كيف يندمج مع بقية العازفين ومنهم من يحب العزف منفرداً ومنهم من كانت هذه أول حفلة له .. فتشعر بقلقه وتوتره الذي سرعان ما يختفي وسط صوت الآلات الأخرى وتصفيق الجمهور ..
    وكنت أستمتع بترجمة لغة العازفين .. أسعد إن فهمت بعضاً منها كأني وجدت حلاً لمعادلة كونية صعبة ..
     سكنت المقطوعة والفرقة لخمسة ثوان .. بدأ بها عازف الإيقاع وصلته  .. وكانت أية وصلة .. هنا كانت لحظة سطوع نجمه حقاً .. فظللت مشدوهة النظر إليه ومبتسمة وأصفق مع الجمهور .. حتى لاحظت أنه انتبه لي هو الآخر .. وابتسم لي هو الآخر .. وفجأة تحول عزفه كله لي .... كأني أجمل فتاة في الكون وكأن المقطوعة كاملة بايقاعها ونغماتها وسكتاتها , كتبت من أجلي أنا بل وعزفت من أجلي أنا ..
  كنت أنا وقلبي نرقص فرحا , وكانت قدماي ويداي لا يهدأن .. كيف يهدأن ؟!
  وكانت بسمتي لا تفارق شفتاي .. وعيناي تلمع بشدة .. كأني أحببت وكأنه عزف مقطوعته هذه , ليبوح لي بمشاعره وعن حبه الذي اكتشفت أني أبادله اياه ..
   تنتهي الحفلة الموسيقية وتنتهي معها قصة حب دامت تسعون دقيقة دارت بين عازف إيقاع وفتاة لم يتسني له رؤية شيئ من  وجهها- بسبب إضاءة المسرح - إلا بريق عينيها وابتسامتها اللذان لا يملك إخفاؤهما ظل .
   انتهت المقطوعة ولم ينتهي وقعها بعد ..رقصة وسط السحاب .. ظلت باقية تحيا وتعلو وتعلو لتأخذ مكانها بين النجوم ..