فيا بحر ..
فيا بحر .. كفى .. كُف عن رميي بمياهك المتطايرة .. كف عن المزاح .. فما جئتك مازحة .. كف عن مغازلتي وركل أقدامي كي أتحدث .. لن أتحدث .. كف عن إغرائي بالنزول إليك لنلعب سويا .. فكلانا يعلم أني وان كنت طوال حياتي أقاومك وأنتصر ..فإنك حتما ستغلبني هذه المرة .. فإني لن أقاوم ودعني أرفع لك رايتي البيضاء كي تصدق ..
فيا بحر .. أنا لست أنا .. ولكنك أنت .. أعمق قليلاً .. وأكثر زُرقة قليلاً .. وصرت أقرب إلى الشاطئ قليلاً.. ولكنك أنت .. لم تتغير .. مازلت كبيراً وبعيداً وجميلاً وصوتك ورائحتك كما هم ..
أما أنا فكبرت كثيراً .. وملامحي اختلفت كثيرا .. خصال شعري صارت بيضاء كثيراً ... أنا لازلت أتعجب أنك عرفتني من أول وهلة .. فأنا لم أعد أعرفني كثيرا ً ..
أتذكر يا بحر .. عندما كنت في الخامسة من عمري .. وكنت أقضي كل وقتي معك .. أبني قصوراً وأنفاق من رمل ذهبي وأستنفذ كل طاقتي في حفر خنادق عميقة ظناً مني أني قد أجد مياهك تحت طبقات الرمل .. وربما أجد بيوت الأسماك ومخلوقات أخرى تحته ..
كانت أعمق مخاوفي آنذاك أن يظهر لي وأنا أحفر سمكة غاضبة .. تقضم أصابعي حتى أتوقف عن ازعاجها هي وصغارها ونقر بيتها المختبئ تحت الرمال .. أو أن أسبح فيك وأتعمق وأنظر فأجدني انجرفت بعيداً ولم أعد أعرف مكان مظلتنا ..
كبرت قليلاً وصرت أنزل مياهك وألعب أنا واخوتي وأقاربنا .. تذكر حين كنا ننتظر أكبر موجة ثم نغطس فيها ونطفو بعدها .. تذكر حين كنا نعطيها ظهورنا ونقفز جميعا في محاولة لكسر موجك .. وكنا نغلبك أحياناً كثيرا وكنت أنت تكسر ظهورنا أحياناً أكثر .. كنت لا أخشى الغرق .. وما زلت لا أخشاه .. سأحدثك عن ما أخشاه فيما بعد ولكن ..
هل تذكر مزاجك السيئ في بعض الأحيان ؟ تذكر أول دوامة اجتذبتني إليها ؟ تذكر قناديلك التي كنت ترمي بها على شاطئنا وأول لدغة تسببت لي بها ؟ ألومك أنت وليس القنديل .. تذكر ألعابي التي ابتلعتها ؟ ونعالي التي دفنتها في الرمال .. أنا أذكر ..
كبرت كثيراً وسريعاً .. وصارت مخاوفي أكبر وأكثر وأعمق .. فتحولت القناديل أناساً يلدغون بلا رحمة .. وصارت دوامة الحياة تبتلعنا وتجذبنا للقاع ونحن لها مستسلمين .. وصرت أخشى الألم الذي لا يستطيع مداواته بشر ..صرت أخشى من الحب وعلى من أحب .. صرت أخشى الفراق .. وما بعد الفراق .. صرت أخشى فساد القلوب والأفكار .. وزيفها .. صرت أخشى اللا حياة التى أتنفسها ..صرت أخشى أن أقابل الله خالية الصحيفة .. صرت أخشى وأخشى وأخشى ..
فيا بحرُ ويا بحرُ ويا بحرُ .. أرأيت ما بداخلي ؟ أدركت أن الموضوع لا يحتمل المزاح ؟ .. وأني قد أتيتك لتعيد لي شعوري بأني صغيرة مجدداً وأنك تكبرني بكثير ..
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
0 comments:
Post a Comment